سورة الفتح - تفسير تفسير ابن الجوزي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الفتح)


        


قوله تعالى: {إِنّا فَتَحْنا لك فَتْحاً مُبِيناً..} الآية سبب نزولها: أنه لمَا نزل قوله: {وما أَدري ما يُفْعَلُ بِي ولا بِكُم} [الأحقاف: 9] قال اليهود: كيف نتَّبع رجُلاً لا يَدري ما يُفْعَلُ به؟! فاشتدَّ ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآية، رواه عطاء عن ابن عباس.
وفي المراد بالفتح أربعة أقوال.
أحدها: أنه كان يومَ الحديبية، قاله الأكثرون. قال البراء بن عازب: نحن نَعُدُّ الفتح بَيْعةَ الرِّضْوان. وقال الشعبي: هو فتح الحديبية، غُفِر له ما تقدَّم من ذَنْبه وما تأخَّر، وأُطعموا نخل خيبر، وبلغ الهَدْيُ مَحِلَّه، وظَهرت الرُّومَ على فارس، ففرح المؤمنون بظهور أهل الكتاب على المجوس قال الزهري: لم يكن فتحٌ أعظمَ من صُلح الحديبية، وذلك أن المشركين اختلطوا بالمسلمين فسمعوا كلامهم فتمكَّن الإِسلامُ في قلوبهم، وأسلم في ثلاث سنين خَلْقٌ كثير، وكَثُر بهم سواد الإِسلامُ. قال مجاهد: يعني بالفتح ما قضى اللهُ له من نحر الهَدْي بالحديبية وحَلْق رأسه. وقال ابن قتيبة: {إِنّا فَتَحْنا لك فتحاً مُبيناً} أي: قَضَيْنا لك قضاءً عظيماً، ويقال للقاضي: الفتَّاح. قال الفراء: والفتح قد يكون صُلحاً، ويكون أَخْذَ الشيء عَنْوةً، ويكون بالقتال. وقال غيره: معنى الفتح في اللغة: فتح المنغلق، والصُّلْح الذي جُعل مع المشركين بالحديبية كان مسدوداً متعذِّراً حتى فتحه الله تعالى.
الإِشارة إِلى قصة الحديبية:
روت عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى في النَّوم كأن قائلاً يقول له لَتَدْخُلُنْ المسجد الحرام إِن شاء اللهُ آمنين، فأصبح فحدَّث الناس برؤياه، وأمرهم بالخروج للعُمْرة؛ فذكر أهلُ العِلْم بالسِّيَرِ أنَّه خرج واستنفر أصحابَه للعمرة، وذلك في سنة ست، ولم يخرج بسلاح إِلاّ السيوف في القُرُب، وساق هو وأصحابُه البُدْنَ، فصلَّى الظُّهر ب ذي الحُلَيْفة، ثم دعا بالبُدْنِ فجُلِّلَتْ، ثم أشعرها وقلَّدها، فعل ذلك أصحابه، وأحرم ولبَّى. فبلغ المشرِكينَ خروجُه فأجمع رأيُهم على صدِّه عن المسجد الحرام، وخرجوا حتى عسكروا ب بَلْدَح وقدَّموا مائتي فارس إِلى كُراع الغميم، وسار رسولُ الله صلى الله عليه وسلم حتى دنا من الحديبية؛ قال الزجاج: وهي بئر، فسمِّي المكان باسم البئر؛ قالوا: وبينها وبين مكة تسعة أميال، فوقفت يَدَا راحلته فقال المسلمون: حَلْ حَلْ، يزجرونها، فأبَتْ فقالوا: خَلأَتْ القصْواءُ والخِلاءُ في النّاقة مثل الحِران في الفَرَس. فقال: «ما خَلأَتْ، ولكن حَبَسها حابِسَ الفِيلِ، أما واللهِ لا يسألوني خُطَّةً فيها تعظيمُ حُرْمة اللهِ إِلاّ أعطيتُهم إِيّاها»، ثم جرَّها فقامت، فولَّى راجعاً عَوْده على بَدْئه حتى نزل على ثمد من أثماد الحديبية قليلِ الماء، فانتزع سهماً من كنانته فغرزه فيها، فجاشت لهم بالرَّواء، وجاءه بُدَيْل بن ورقاء في ركب فسلَّموا وقالوا: جئناك من عند قومك وقد استنفروا لك الأحابيش ومن أطاعهم، يُقْسِمون، لا يُخَلُّون بينك وبين البيت حتى تُبيد خَضْراءَهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«لَمْ نأتِ لقتال أحَد إِنما جئنا لنطوف بهذا البيت، فمن صدَّنا عنه قاتلْناه» فرجعَ بديل فأخبر قريشاً، فبعثوا عروة بن مسعود، فكلَّمه بنحو ذلك، فأخبر قريشاً، فقالوا: نَرُدُّه مِن عامِنا هذا ويَرْجِع من قابِل فيَدْخُل مكة ويطوف بالبيت، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمانَ بن عفان قال: «اذْهَبْ إِلى قريش فأَخْبِرْهم أنّا لَمْ نأتِ لقتالِ أحَدٍ، وإِنما جئنا زُوّاراً لهذا البيت، معنا الهدي ننحره وننصرف»، فأتاهم فأخبرهم، فقالوا: لا كان هذا أبداً، ولا يَدخُلها العامَ، وبَلَغَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أنَّ عثمان قد قُتل، فقال: «لا نَبْرَحُ حتى نُناجِزَهم»، فذاك حين دعا المسلمين إِلى بيعة الرّضوان، فبايعهم تحت الشجرة.
وفي عددهم يومئذ أربعة أقوال.
أحدها: ألف وأربعمائة، قاله البراء، وسلمة بن الأكوع، وجابر، ومعقل بن يسار.
والثاني: ألف وخمسمائة، روي عن جابر أيضاً، وبه قال قتادة.
والثالث: ألف وخمسمائة وخمس وعشرون، رواه العوفي عن ابن عباس.
والرابع: ألف وثلاثمائة، قاله عبد الله بن أبي أوفى. قال: وضَرَبَ يومئذ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بشماله على يمينه لعثمان، وقال: إِنه ذهب في حاجة الله ورسوله، وَجعَلَت الرُّسُل تختلف بينهم، فأجمعوا على الصُّلح، فبعثوا سهيل بن عمرو في عِدَّة رجال، فصالحه كما ذكرنا في [براءة: 7] فأقام بالحديبية بضعة عشر يوماً، ويقال: عشرين ليلة، ثم انصرف، فلمّا كان ب {ضَجَنَان} نزل عليه: {إنّا فَتَحْنا لك فَتْحاً مبيناً}، فقال جبريل: يَهنيك يا رسول الله، وهنّأه المسلمون.
والقول الثاني: أن هذا الفتح فتح مكة، رواه مسروق عن عائشة وبه قال السدي. وقال بعض مَن ذَهَب إِلى هذا: إِنما وُعِد بفتح مكة بهذه الآية.
والثالث: أنه فتح خيبر، قاله مجاهد، والعوفي وعن أنس بن مالك كالقولين.
والرابع: أنه القضاء له بالإِسلام، قاله مقاتل. وقال غيره: حَكَمْنا لك بإظهار دِينك والنُّصرة على عدوِّك.
قوله تعالى: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ} قال ثعلب: اللام لام كي، والمعنى: لكي يجتمع لك مع المغفرة تمام النِّعمة في الفتح، فلمّا انضمَّ إلى المغفرة شيءٌ حادِثٌ، حَسُنَ معنى كي. وغَلِط من قال: ليس. الفتح سببَ المغفرة. قوله تعالى {ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وما تأخَّرَ} قال ابن عباس: والمعنى {ما تقدَّم} في الجاهلية، و{ما تأخَّر} ما لم تعلمه، وهذا على سبيل التأكيد، كما تقول: فلان يَضْرِب من يلقاه ومن لا يلقاه.
قوله تعالى: {ويُتِمِّ نِعمتَه عليك} فيه أربعة أقوال.
أحدها: أن ذلك في الجنة.
والثاني: أنه بالنُبُوَّة والمغفرة، رويا عن ابن عباس.
والثالث: بفتح مكة والطائف وخيبر حكاه الماوردي.
والرابع: بإظهار دِينك على سائر الأديان، قاله أبو سليمان الدمشقي.
قوله تعالى: {ويَهْدِيَكَ صراطاً مستقيماً} أي: ويُثبِّتك عليه؛ وقيل: ويَهدي بك، {ويَنْصُرَكُ اللهُ} على عدوِّك {نَصْراً عزيزاً} قال الزجاج: أي: نَصْراً ذا عِزٍّ لا يقع معه ذُلٌّ.


قوله تعالى: {هو الذي أنزل السَّكينة} أي: السُّكون والطمُّأنينة {في قلوب المؤمنين} لئلاّ تنزعج قلوبُهم لِمَا يَرِد عليهم، فسلَّموا لقضاء الله، وكانوا قد اشتد عليهم صَدُّ المشركين لهم عن البيت، حتى قال عمر: علامَ نُعطي الدَّنِيَّة في ديننا، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «أنا عَبْدُ الله ورسوله، لن أُخالِف أمره ولن يُضَيِّعني»، ثم أَوْقَعَ اللهُ الرِّضى بما جرى في قلوب المسلمين، فسلَّموا وأطاعوا.
{لِيَزدادوا إيماناً} وذلك أنه كلَّما نزلت فريضة زاد إِيمانُهم.
{وللهِ جُنودُ السموات والأرضَ} يريد: أن جميع أهل السموات والأرض مُلْكٌ له لو أراد نُصرة نبيِّه بغيركم لَفَعَل، ولكنه اختاركم لذلك، فاشكُروه.
قوله تعالى: {لِيُدْخِلَ المؤمنين...} الآية. سبب نزولها أنه لمّا نزل قوله: {إِنّا فَتَحْنا لك} قال أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم: هنيئاً لك يا رسول الله بما أعطاك الله، فما لَنا؟ فنزلت هذه الآية، قاله أنس بن مالك. قال مقاتل: فلمّا سمع عبد الله بن أُبيّ بذلك، انطلق في نَفَرٍ إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: ما لَنا عند الله؟ فنزلت {ويُعذِّبَ المنافقين...} الآية.
قال ابن جرير: كُرِّرت اللاّمُ في {لِيُدْخِلَ} على اللام في {لِيَغْفِرَ}، فالمعنى: إَِنّا فَتَحْنا لك لِيَغْفِرَ لك اللهُ لِيُدْخِلَ المؤمنين، ولذلك لم يُدخِل بينهما واو العطف، والمعنى: لِيُدْخِل ولِيُعَذِّب.
قوله تعالى: {عليهم دائرةُ السُّوْء} قرأ ابن كثير، وأبو عمرو: بضم السين؛ والباقون بفتحها.
قوله تعالى: {وكان ذلك} أي: ذلك الوَعْد بإدخالهم الجنة وتكفير سيِّئاتهم {عِنْدَ الله} أي: في حُكمه {فَوزاً عظيماً} لهم؛ والمعنى: أنه حكم لهم بالفَوْز، فلذلك وعدهم إِدخال الجنة.
قوله تعالى: {الظانِّين بالله ظَنَّ السَّوْءِ} فيه خمسة أقوال:
أحدها: أنهم ظنُّوا أن لله شريكاً.
والثاني: أن الله لا ينصُر محمداً وأصحابه.
والثالث: أنهم ظنُّوا به حين خرج إِلى الحديبية أنه سيُقْتَل أويُهْزَمُ ولا يعود ظافراً.
والرابع: أنهم ظنُّوا أنهم ورسول الله صلى الله عليه وسلم بمنزلة واحدة عند الله.
والخامس: ظنُّوا أن الله لا يبعث الموتى وقد بيَّنّا معنى {دائرة السّوء} في [براءة: 98].
وما بعد هذا قد سبق بيانه [الفتح: 4] [الاحزاب: 45] إِلى قوله: {لِيؤْمِنوا بالله ورسوله} قرأ ابن كثير، وأبو عمرو: {لِيُؤْمِنوا} بالياء {ويُعزِّروه ويُوقِّروه ويُسبِّحوه} كلُّهن بالياء، والباقون: بالتاء؛ على معنى: قل لهم: إِنّا أرسلناك، لتؤمنوا. وقرأ علي بن أبي طالب: وابن السميفع: {ويُعَزٍّزوه} بزاءين وقد ذكرنا في [الأعراف: 157] معنى {ويُعَزِّروه} عند قوله: {وعزَّروه ونصروه}.
قوله تعالى: {ويوقِّروه} أي: يعظِّموه ويبجِّلوه. واختار كثير من القرَّاء الوقف هاهنا، لاختلاف الكناية فيه وفيما بعده.
قوله تعالى: {ويسبِّحوه} هذه الهاء ترجع إلى الله عز وجل. والمراد بتسبيحه هاهنا: الصلاةُ له. قال المفسرون: والمراد بصلاة البُكرة الفجر، وبصلاة الأصيل باقي الصلوات الخمس.
قوله تعالى: {إِن الذين يبايعونك} يعني بَيْعة الرّضوان بالحديبية. وعلى ماذا بايعوه؟ فيه قولان:
أحدهما: أنهم بايعوه على الموت، قاله عبادة بن الصامت.
والثاني: على أن لا يفِرًّوا، قاله جابر بن عبد الله. ومعناهما متقارب، لأنه أراد: على أن لا تَفرُّوا ولو متُّم، وسمِّيتْ بَيْعة، لأنهم باعوا أنفُسهم من الله بالجنة، وكان العَقْد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فكأنهم بايَعوا اللهَ عز وجل، لأنه ضَمِن لهم الجنة بوفائهم.
{يَدُ الله فَوْقَ أيديهم} فيه أربعة أقوال.
أحدها: يد الله في الوفاء فوق أيديهم.
والثاني: يد الله في الثواب فوق أيديهم.
والثالث: يد الله عليهم في المنّة بالهداية فوق أيديهم بالطاعة، ذكر هذه الأقوال الزجاج.
والرابع: قُوَّة الله ونُصرته فوق قُوَّتهم ونُصرتهم، ذكره ابن جرير وابن كيسان.
قوله تعالى: {فمَنْ نَكَثَ} أي: نقض ما عقده من هذه البَيْعة {فإنَّما يَنْكُثُ على نَفْسه} أي: يَرْجِع ذلك النَّقْضُ عليه {ومن أوفى بما عاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ} من البَيْعة {فسنُؤتيه} قرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر، وأبان عن عاصم: {فسنُؤتيه} بالنون. وقرأ عاصم، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي: بالياء {أجْراً عظيماً} وهو الجنة. قال ابن السائب: فلم ينكُث العهد منهم غير رجل واحد يقال له: الجدّ بن قيس، وكان منافقاً.


قوله تعالى: {سيقول لك المُخلَّفون من الأعراب} قال ابن إِسحاق: لما أراد العمرة استنفرَ مَنْ حَوْلَ المدينة من أهل البوادي والأعراب ليخرجوا معه، خوفاً من قومه أن يَعْرِضوا له بحرب أو بصَدٍّ، فتثاقل عنه كثير منهم، فهم الذين عنى الله بقوله: {سيقول لك المُخلَّفون من الأعراب} قال أبو صالح عن ابن عباس: وهم غفار ومزينة وجهينة وأشجع والدِّيل وأسلم. قال يونس النحوي: الدِّيل في عبد القيس ساكن الياء، والدُّول من حنيفة ساكن الواو، والدُّئِل في كنانة رهط أبي الأسود الدُّؤَلي. فأمّا المخلَّفون فإنهم تخلَّفوا مخافة القتل. {شَغَلَتْنا أموالُنا وأهلونا} أي: خِفْنا عليهم الضَّيْعة {فاستَغْفِرْ لنا} أي: ادْعُ اللهَ أنْ يَغْفِر لنا تخلُّفنا عنك {يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم} أي: ما يبالون استغفرتَ لهم أم لم تستغفر لهم.
قوله تعالى: {فمَنْ يَمْلِكُ لكم من الله شيئاً إِن أراد بكم ضَرّاً} قرأ حمزة، والكسائي، وخلف: {ضُراً} بضم الضاد؛ والباقون: بالفتح. قال أبو علي: {الضَّرُّ} بالفتح: خلاف النفع، وبالضم: سوء الحال، ويجوز أن يكونا لغتين كالفَقْر والفُقْر، وذلك أنهم ظنُّوا أن تخلَّفهم يدفع عنهم الضَّرَّ، ويعجِّل لهم النفع بسلامة أنفسهم وأموالهم فأخبرهم الله تعالى أنه إِن أراد بهم شيئاً، لم يَقْدِر أحد على دفعه عنهم، {بل كان الله بما تعملون خبيرا} من تخلُّفهم وقولهم عن المسلمين أنهم سيهلكون، وذلك قوله: {بَلْ ظَنَنْتُمْ} أي: توهَّمتم {أنْ لن يَنْقَلِبَ الرَّسولُ والمؤمنون إِلى أهليهم} أي: لا يَرْجِعون إِلى المدينة، لاستئصال العدوِّ إِيّاهم، {وزُيِّن ذلك في قُلوبكم} وذلك من تزيين الشيطان.
قوله تعالى: {وكنتم قَوْماً بوراً} قد ذكرناه في [الفرقان: 18].

1 | 2 | 3